Sunday, July 26, 2020

ذكريات بعيدة

في صيف عام ٢٠١١، كنت في مدينة ساحلية بعيدة وفي ظهيرة شديدة الحرارة اتجهت نحو البحر، رأيت فتاة سمراء طويلة عارية تماما، جسد ابنوسي حقيقي، شعرها قصير ومجعد، كولد يحاول أن يطيل شعره، لم يكن يغطيها شيء سوى منشفة يبدو عليها القدم ألقتها على كتفها الأيمن

لم اقف مكاني أكملت الطريق ولم أنظر إليها مرة أخرى، شعرت بخوف غريب، ليس خوفا منها، ربما خوفا عليها، كانت تتحرك رافعة رأسها لأعلى لا يبدو عليها أي خوف أو اكتراث، لا تجري من أحد ولا يتبعها أحد. أما أنا فكنت أتلفت في الشوارع أحاول أن أمنع شخصا خياليا يحاول اللحاق بها، أو ربما أمنع عنها أطفال الشارع الملاعين من حدفها بالحجارة. الغريب أن الشارع كان خاويا تماما، ولم يكن هناك ملاعين صغار أو كبار يجب أن أخاف عليها منهم. ربما الأمر طبيعيا في ظهيرة قائظة في نهاية أغسطس 
بعد ساعة من وجودي على البحر احترق جسدي ووجهي وعدت للفندق، صاحب الفندق، دكتور كرياكو، نعم هذا اسمه، مدرس بجامعة يونانية، ورث الفندق عن أبيه ويأتي مرة واحدة سنويا لمصر يفتح الفندق لزبائن فكرت أنه ورثهم أيضا عن أبيه. في نهاية أغسطس كانت مجموعة صغيرة من الرواد بالفندق سفير الدومنيكان وصديقته ورجل وسيدة كبار في السن، وأنا وزوجي. 
سألته عن الفتاة، قال لا يعرف ربما عقلها ملووث، فهنا الوضع تغير كثيرا، قبل ثلاثين عاما حتى لو كانت طبيعية وخرجت للبحر عارية أنا واثق أن شيئا لم يكن ليحدث. قلت له إن شيئا لم يحدث بالفعل، على الأقل في الدقيقة التي باغتني وجودها في الشارع.
كل ليلة على وجبة العشاء الخفيفة في مطعم الفندق ذي الطاولات الخشبية المغطاة بمفارش بيضاء مصنوعة يدويا ويبدوا عليها القدم رغم نظافتها يمر بنا دكتور كرياكو ويقول سنشرب الشاي معا بعد العشا.
نأكل ونخرج لنجلس معه، ثلاث طاولات بلاستيكية بيضاء وحول كل طاولة اربعة كراسي بلاستيكية أيضا. الفندق، كان اسمه "دي روز" وكان أشبه بمنزل قديم يشبه منازل تركتها الحرب، والحرب لم تكن بعيدة عن تلك المنطقة بأية حال، نحكي ويتكلم عن الوطن والعالم الذي سيتغير تمام دون رجعة والنوستالجيا التي أحبها.
قال لقد نزل في هذا الفندق مونتجمري وقبله إسماعيل صدقي باشا وغيرهم، يونانيون وطليان ومصريين وإنجليز، لقد كنا الفندق الوحيد في المنطقة لسنوات طويلة شيده أبي في العام ١٩٢٩. 
الفندق من طابقين، كنت اقضي بعض الوقت في الصباح أتنقل بين الغرف العتيقة وأرى تذكارات تصلح لإقامة متحف صغير. الطبعة الأولى من مجلة قديمة لا أتذكر اسمها موضوعة على مكتب من خشب ثقيل، خلفه كرسي أسود من الأبانوس ومنفضة سجائر وغليون حشبي عتيق.
وقفت أمام لوحة من لوحات وجوه الفيوم التي أحبها وتذكرت الفتاة التي رأيتها في الصباح وعدت لأسئله مرة أخرى بالتأكيد هناك من يعرف عنها أي شيء.
كرياكو لم يكن متحمسا للحديث عن الفتاة أو أي تفاصيل قد تضع الخوف واضحا أمامنا على الطاولة البلاستيكية البيضاء بكراسيها الخضراء في فرندة الفندق.
حول الفندق أو البنسيون كما يحب أكثر أن يسميه الناس، فنادق كثيرة حديثة بغرف مكيفة وحمامات خاصة، ووجبات إفطار وغداء وعشاء على طاولات مفرودة تختار منها ما يعجبك. 
داخل دي روز كان الوضع مختلف تماما، تجلس على الطاولات الخشبية العتيقة في منطقة الطعام تحيط بك صور بالأبيض والأسود، يخبرك الطاهي "الفطور ككل يوم فول وبيض وجبن ومخلل وخبز صابح ومربى برتقال طازجة، عادة نقدم المعلبة لكن جاء للفندق هدية من أحد الزبائن."
أجلس في انتظار الطعام لا لشيء سوى تلك الحالة من الانفصال عن العالم، في هذه الغرفة الصغيرة التي لا تحوي سوى ٤ طاولات، مضاءة باللون الأصفر، وفي نهاية غرفة المكتب العتيقة المجاورة يخرج صوت أسمهان اسمعه من المطعم الصغير وانتظر مربى البرتقال.
"يا حبيبي تعالى الحقني شوف اللي جرالي من بعدك"
لا أتذكر اسم الطاه، مرت تسع سنوات، سأسميه خليل. سألته ذاك اليوم على الفطور، لقد رأيت بالأمس فتاة بهذا الوصف في الشارع وأخشى أن يكون قد حدث لها شيء. 
قال لا تقلقي هنا البلد متروك وبعيد ولا يوجد أناس كثيرون ولا يسعى أي شخص هنا لإيذاء أيا كان، أنا لا أعرف الفتاة لكن سمعت عنها يقولون مجذوبة تسكن على أطراف المنطقة بين الصحراء والبحر ويساعدها الناس ببعض الطعام.
اليوم الأخير قبل السفر خرجنا بعد الإفطار في البهو الصغير بين البنسيون والشارع نشرب فنجان قهوة، أبديت امتناني للوقت الذي قضيناه، كلفتنا الفترة كلها مبلغا قد يكون أقل من مكوث نصف ليلة في أي فندق آخر، أخبرت كرياكو  أن الشجر المحيط بالمنزل يذكرني ببيتنا قبل أن يهدم أبي حديقته ليبني جراجا للسيارة.
قبل أنا نتحرك للشارع رأيتها من السور الصغير، فتاة الأبانوس، ترتدي عباءة مطرزة تشبه عباءات البدو، قلت هذي هي، تبدو بخير، لكنها ربما لم تكن كذلك. 
الطريق طويل للمدينة المكتظة بالعوادم وأصوات السيارات المزعجة، ٨ ساعات في الطريق تقريبا، كنت أرى كل كوخ يقع بين الصحراء والبحر بيتها. 
تسع سنوات كلما أعادتني الذاكرة هناك، أشعر بأن شيئا ما كان يجب أن يحدث، تماما مثل هذه الأيام، شيئا ما يجب أن يحدث.