.الآن فقط أدركت لماذا فعلت ما فعلت
في الأصل ولدت وأبي لم يكن في المنزل كان وفق روايته وأمي قد ذهب للتو إلى العمل "وحدته العسكرية" لقضاء بضعة أيام كالعادة، ثم ذهبت أمي في شتاء قاسي لبيت أمها , جدتي، وهناك جاءها المخاض وبقيت عند جدتي أسبوعا حتى عاد أبي من العمل وأخذني وأمي للمنزل ومعنا خالتي تحمل ما تيسر من بيت جدتي لأمي
لذا فأنا أحكي لكم الآن عن أبي الذي لم يكن متاحا طوال الوقت، رغم ذلك فهو قادر تماما في وقت وجوده أن يجعلني أعيش احتفالات ويترك لذاكرتي الكثير من التفاصيل، الكثير من الضحك، الكثير من الحكايا
في المساءات كان يغني لي أبي ثم أصبح يغني لي ولأخي، ثم لي ولأخي ولأخوتي وعندما تنقطع الكهرباء كان يجمعنا حوله ويحكي عن أبيه، جدي الذي لم أره أبدا، أو يحكي حواديت أو يغني أغاني عمر فتحي الذي أحبه أبي كثيرا، أو مربعات ابن .عروس التي أحبها أبوه
قبل سنوات كنت صغيرة لم أتعد الأعوام الست، كان أبي بحكم عمله يغيب أغلب أيام الأسبوع في عمله، يعود في أيام إجازته يوما أو اثنان في أحسن الحالات، ويذهب إلى وحدته العسكرية ثم يدور الأسبوع شأنه شأن كل الأسابيع، ومنذ كنت في السادسة وحتى ساعات قليلة مضت كانت هناك ذكرى قاسية في عقلي لم تتركني أبدا.
كنت أذهب للمدرسة وحدي، أمي أخذتني للمدرسة التي تبعد عن بيتنا نحو ١٥ دقيقة سيرا أو ربما أكثر فعقلي الصغير حينها كان يراها مسافة مخيفة وطويلة، والأمر المطمئن الوحيد أني قبل نهاية هذه الرحلة في ثلثها الأخير، كنت أمر على بيت جدتي لأني لينضم لي ابن خالي وكان في نفس عمري ونذهب سويا.
في يوم شتوي أيضا استيقظ أبي صباحا وحضر لي الساندوتشات وقال "إيه رأيك أوصلك النهاردة المدرسة في طريقي" يمكن لأي منكم ممن يحب أباه أن يضرب فرحتي الصغيرة ١٠ أضعاف ليعرف كم كنت سعيدة يومها.
كان أبي وقتها سيمر على صديقه بالقرب من المدرسة، وهو أمر لم يكن يحدث كثيرا، فبيتنا يقع بالقرب من طريق مباشر اقرب للمواصلات من طريق المدرسة، لذا ارتديت ملابسي وقتها سريعا وكنت جاهزة لأني على يقين أن هذه الرحلة بينما يمسك أبي كفي الصغيرة لن تتكرر كثيرا.
انطلقنا من المنزل وظللت أتحدث وهو يضحك، ثم فجأة ظهرت سيارة يقودها رجل يعرف أبي فتوقف وتحدثا قليلا وعرض الرجل أن يوصلنا في طريقه، قال أبي يسألني؛ "يلا يا دودو نروح مع عمك "فلان"؟ لكني كنت واضحة وحادة أن "لأه لأه" ثم قطبت وجهي فاعتذر أبي من صديقة ورغم محايلاتهم لي رفضت، فذهب الرجل وقال أبي ضيعتي علينا توصيلة.
اه نسيت أن أخبركم أن أبي حينها كان قد بدأ يعاني من آلام في الكلى (عرفت هذا المصطلح بعد سنوات) تمتد لظهره، وفيما بدى وجهه منزعجا، ظللت طوال الطريق أقول له "أنا آسفة، أروح أجري ورا العربية أقوله هنروح معاك ومتزعلش؟" لكن أبي عاد وضحك وقال "خلاص مش مشكلة احنا ماشيين أهو".
تحول هذا اليوم بالنسبة لي إلى يوم سيئ للغاية لأن كل ما شعرت به أني أحزنت أبي وهو لم يكن بكامل صحته، وكلما مرت الذكرى في عقلي حتى ساعات مضت كنت ألوم نفسي وأوبخها ثم أعود وأقول أني كنت طفلة وهذه أفعال أطفال.
قبل ساعات فقط بينما أتذكر أني قبل يومين وقفت وأبي وأخرجت علبة سجائر بنكهة النعناع وقلت له تشرب يابابا؟ قال وهو يغالب الضحك "يابنت الللل بتشربي سجاير يا غادة؟" فقلت "دي نعناع يا بابا تفاريح تفاريح خدلك واحدة" ضحك وأخذ سيجارة وقال وهنولع منين يافالحة؟ فذهبت لرجل يشرب سيجارة وأخذت ولاعته أشعلت سيجارتي ثم عدت لأبي وهو ينظر مندهشا وأشعلت له سيجارته" ووقفنا وجها لوجه نضحك.
قبل ساعات فقط فهمت أن ما فعلته وعمري ٦ سنوات لم يكن أفعال طفولية حمقاء، بل كنت شخصا عاقلا يعرف أنه إن ركب تلك السيارة مع صديق أبيه، سيتحدث أبوه مع صديقه الكبير في السن ويترك الطفلة الصغيرة عابسة وحزينة على الفرص النادرة التي نضيعها، لذا أعتقد الآن أني لن أحزن أبدا على هذه الذكرى، لقد نجحت في أن أقتنص وقتا مع أبي أحكي له عن أصدقائي الخياليين وعن مدرسة العربي والدين ومقعدي منتصف الفصل.
اعتدت أن أذهب للمدرسة وحدي، أقول دوما درست ١١ عاما لم يزرني فيها أبي في المدرسة سوى مرة لأني نسيت مصروفي، حضر وقت الفسحة ووقف عند باب المبنى الفاصل بين منطقة اللعب ومدخل الفصول ومعه زوج خالتي، فيما جرت علي صديقتي تقول "باباكي هنا باباكي هنا" وجرت فجريت خلفاها لأرى أبي الذي كان صغيرا وشابا وجميلا، وقتها شعرت بالغيرة والانزعاج، فهناك صديقاتي تقلن "أبوكي حلو قوي يا غادة"!